
بعد عام من الإطاحة بالديكتاتور السوري بشار الأسد، تُثير التقارير المتزايدة عن عنف جماعات أهلية في سوريا القلق والحيرة. على سبيل المثال، في أكتوبر/تشرين الأول، قُتل رجلان بالرصاص في قرية عناز ذات الأغلبية المسيحية بمحافظة حمص على يد مهاجمين كانوا يرتدون ملابس سوداء ويركبون دراجة نارية.
وصف بعض المعلقين جرائم القتل أنها ناجمة عن الكراهية الطائفية، وأنحوا باللائمة على الحكومة السورية الجديدة. في المقابل ألقى آخرون باللوم على فلول نظام الأسد، معتبرين أنهم يسعون إلى تأجيج التوترات المجتمعية.
لكن تحقيقاً كشف في وقت لاحق أن أحد القتيلين كان معروفاً بارتباطه بميليشيا تابعة للأسد، مسؤولة عن مقتل ما يصل إلى 700 شخص خلال الحرب التي شهدتها البلاد على مدار 14 عاماً.
وكما ذكرت صحيفة “عنب بلدي” السورية آنذاك، كان العديد من شباب عناز في صف نظام الأسد في الحرب، بينما كانت قرية أخرى مجاورة، وهي قلعة الحصن، في صف الثوار المناهضين للحكومة السورية. ومن المرجح جداً أن تكون جريمة القتل المزدوجة اغتيالاً بدافع الانتقام.
تصاعد أعمال الانتقام
من غير المرجح أن يكشف اللثام عما حدث بالضبط في الوقت القريب. لكن المؤكد أن تلك الحادثة ليست الوحيدة من نوعها في سوريا مؤخراً، ولن تكون الأخيرة حسب ما تؤشر عليه التطورات.
تتصاعد أعمال الانتقام في سوريا. خلال الأسبوعين الأخيرين من أغسطس/آب، قدّر أحد المراقبين أن 36% من أكثر من 70 حالة وفاة عنيفة سُجِّلت كانت نتيجة عمليات قتل مستهدف، أو أعمال انتقام. وقد وصل هذا الرقم مؤخراً إلى 60%.
لا تُشبه عمليات القتل الانتقامية أعمال العنف الطائفي الجماعي الأخيرة في سوريا، حيث قُتل المئات دفعةً واحدة في الساحل والسويداء؛ فهي عادةً هجمات موجهة ضد أفراد.
يقول غريغوري وترز، الباحث البارز في المجلس الأطلسي Atlantic Council، الذي زار سوريا كثيراً ويتابع الأحداث عبر موقعه “سوريا ريفيزيتد” Syria Revisited: “عندما نتحدث عن العنف الانتقامي الحقيقي— وأقصد به العنف الذي يستهدف المتعاونين مع النظام، أو جنوده، أو أي شخص كان جزءاً منه — فإن هذا النوع من العنف في تزايد”.
ويضيف الباحث في حديثه إلى DW: “يتفاوت ذلك من أسبوع لآخر، لكنه يزداد سوءاً بالتأكيد، ويزيد غياب العدالة الانتقالية من حدة التوتر والضغط”.
“لماذا تطلبون منا الصبر؟ إلى متى علينا الانتظار؟”
منذ الإطاحة بنظام الأسد في ديسمبر/كانون الأول 2024، وعدت الحكومة المؤقتة بمحاسبة عتاة رموز النظام، بمن فيهم مرتكبي جرائم الحرب وانتهاكات حقوق الإنسان. ويقول غريغوري وترز إن الرئيس السوري المؤقت، أحمد الشرع، كان قد التقى بقادة المجتمع المحلي، داعياً إياهم إلى الصبر. ويضيف وترز: “لكنني سمعت أيضاً أن البعض قال في تلك الاجتماعات: ′لقد سقط مليون شهيد، ودُمر مليون منزل، وشُرّد ملايين. لماذا تطلبون منا الصبر؟ إلى متى علينا الانتظار؟'”.
أصدرت الحكومة السورية عفواً عاماً عن الكثير من الذين خدموا في الجيش السوري السابق، مؤكدة أن من تلطخت أيديهم بـ”دماء السوريين” فقط هم من سيواجهون الملاحقة الجنائية.
حتى الآن، تبدو الجهود المبذولة لاعتقال المشتبه في ارتكابهم جرائم “غير متسقة، وغامضة، وضعيفة التواصل”، وفق ما كتبه غريغوري وترز في تقرير صدر في حزيران/يونيو عن “معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى” WINEP. أما أولئك الذين شغلوا مناصب رفيعة أو ارتبطت أسماؤهم بمجازر بارزة، فقد تم احتجازهم وتعميم أخبار اعتقالهم على نطاق واسع، لكن لم يُعامل جميع المشتبه بهم بالطريقة نفسها.
ويشرح الباحث البارز في المجلس الأطلسي Atlantic Council، غريغوري وترز: “العديد من المخبرين السابقين والعاملين ذوي الرتب الدنيا لا يزالون يتجولون في الشوارع بحرية. وغالباً ما يبلغ السكان المحليون عن هؤلاء للمسؤولين الأمنيين، لكن في كثير من الأحيان يُفرج عنهم بعد بضعة أيام فقط من احتجازهم”.
التحريض على العنف على مواقع التواصل الاجتماعي
يرغب بعض السوريين في فضح من يعتقدون أنه يجب تقديمهم للعدالة. يشير ووترز إلى صفحة باللغة العربية على مواقع التواصل الاجتماعي تحظى بشعبية كبيرة لأنها تنشر صوراً لأشخاص مرتبطين بالنظام.
يوضح غريغوري وترز: “ينشرون صوراً قائلين: ‘هذا الرجل كان جندياً في صفوف النظام، وهو الآن حر، وهو من هذه القرية، لذا من المحتمل أنه موجود هناك'”. وتابع: “قد يعتبر البعض ذلك دعوة للعنف”. ويرى الخبراء أن سيل المعلومات المضللة يزيد الوضع سوءاً.
معظم ضحايا عنف جماعات العدالة الأهلية كانوا من الأغلبية السنية في سوريا. يوضح غريغوري وترز: “المتعاونون السنة [مع النظام] مكروهون من مجتمعاتهم، لذا يسهل استهدافهم”. ولكن إذا تعرض أحد أفراد الأقليات للهجوم، فستكون هناك دائماً اتهامات بالطائفية، كما يقول المراقبون – حتى لو ثبت لاحقاً تورط الضحية في جرائم حرب.
ما الذي يمكن فعله لوقف أعمال العنف الانتقامية؟
في الوقت الحالي، لا يبدو أن الحكومة السورية المؤقتة تبذل الكثير من الجهود للتصدي لأعمال الانتقام التي تستهدف المرتبطين بنظام الأسد. وليس من الواضح ما إذا كان ذلك نابعاً من عدم الرغبة في التدخل أو من ضعف الإمكانيات المتاحة.
يقدم مثالًا على مجموعة انتقامية قديمة في حلب كانت قد اغتالت ضباطاً من نظام الأسد خلال الحرب، ولا تزال تواصل نشاطها حتى اليوم. ويشرح غريغوري وترز قائلاً: “إنه من الصعب جداً على الحكومة ملاحقة هذه المجموعة، فهي في الأساس خلية متمردة. في الوقت الحالي، هم يهاجمون عناصر النظام السابق بدلاً من قوات الحكومة، لكن لو تم اعتقال اثنين أو ثلاثة منهم، فربما يبدؤون بمهاجمة الحكومة نفسها”. ويضيف ووترز أن استراتيجية الحكومة الحالية تبدو وكأنها تهدف إلى اعتقال جنود النظام السابقين قبل أن يتمكن المنتقمون من الوصول إليهم.
“سوء سير عملية العدالة الانتقالية”
يقول آرون زيلين، الزميل البارز في “معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى” WINEP، إنه يعتقد أن نشر مزيد من المعلومات حول الهيئة الوطنية للعدالة الحكومية، التي أُعلن عنها في ربيع 2025، يمكن أن يُسهم في تحسين الوضع. وأضاف في حديثه إلى DW: “سمعت أنهم يقومون بعمل جيد خلف الكواليس، لكنهم يخشون أن يؤدي الحديث العلني عن ذلك إلى إضعاف جهودهم. لكني أعتقد أن الصمت قد يُضعف الثقة والشفافية لغياب المعلومات عن الجدول الزمني أو كيفية سير الأمور بالضبط”.
ويرى محمد العبد الله، مدير “المركز السوري للعدالة والمساءلة” SJAC ومقره واشنطن، أن تصاعد أعمال العنف الانتقامية هو في الواقع دليل على سوء سير عملية العدالة الانتقالية حتى الآن. ويضيف الحقوقي في حديثه مع DW: “السلطات لم تحتجز المتورطين في الانتهاكات، وهم الآن يتجولون في الشوارع. الناس يرونهم ويفكرون: ‘لقد اعتقلتم والدي، أو أعدمتم شقيقي، أو قتلتم ابني’. وفي النهاية، يلجأ هؤلاء إلى ‘أخذ حقهم بأيديهم‘ لأنهم لا يملكون أي معلومات إضافية عن خطة الدولة لمحاسبة هؤلاء الأفراد”. ويختم بالقول: “الوضع فوضوي للغاية؛ إنه يثير الخوف، ويتسبب في نزوح الناس، ويدفعهم إلى التفكير في تحقيق العدالة بأنفسهم”.
Source link



